بانر

علاء الأسواني‮ ‬يفتح النار علي الغرب والاستشراق والمثقفين الخونة‮:‬مصر علي دكة الاحتياطي

دائرة المستشرقين الجهنمية ‬حصرت الأدب‮ ‬المصري‮ ‬في خانة ‬الفولكلور وهؤلاء فقط أفلتوا منها

ريشار جاكمون قال لي إنه نادراً‮ ‬ما يتحمس لترجمة الأعمال العربية‮ ‬وطلب‮ ‬مني تغيير نهاية الرواية

حينما رفضت انفعل وسألني‮: »‬هل تكتب أعمالاً‮ ‬مقدسة«؟‮!‬

هذا الرجل لم يكن معنياً‮ ‬بالأدب وكان مكلفاً‮ ‬من حكومته بتنفيذ أجندة خاصة،‮ ‬وأحرجته في السوربون

ينتظر الدكتور علاء الاسواني خلال الفترة القادمة صدور كتابه الجديد‮ "‬مصر علي دكة الاحتياطي‮". ‬الكتاب يضم مقالات للأسواني كتبها خلال عام ونصف،‮ ‬وفيها يسرّب أراءه في الواقع ولكن بأسلوب قصصي فانتازي‮.‬

الكتاب كان مناسبة للحوار مع الأسواني،‮ ‬ولكن هناك قضايا أخري كان لا بد من فتحها مع صاحب الرواية الأنجح في تاريخ الأدب المصري الحديث‮ "‬عمارة يعقوبيان‮". ‬قضايا تتعلّق بمقروئية الأدب المصري بعد هذه الرواية،‮ ‬وخديعة الترجمة‮. ‬

الأسواني الذي تمت ترجمة أعماله إلي تسع وعشرين لغة سيتحدث عن الدائرة الجهنمية للمستشرقين‮. ‬هؤلاء الذين ضيّقوا الخناق علي الأدب المصري والعربي وحصروه في خانة الفولكلور،‮ ‬وسيقول صراحة من هم الذين استطاعوا الإفلات من هذه الدائرة؟‮!‬

في هذا الحوار يسرد الأسواني للمرة الأولي ذكريات خلاف قديم مع الناقد الفرنسي ريشار جاكمون‮. ‬هذا الخلاف يري الأسواني أنه السبب في كل هجوم ريشار علي أعماله،‮ ‬كما يسرد قصصاً‮ ‬شديدة الدلالة علي الطريقة التي يفكّر بها الغربيون في الأدب العربي‮. ‬

بدأت من مناسبة قرب صدور كتابه الجديد‮. ‬وسألته‮: ‬هل تتعامل مع مقالاتك بنفس درجة الأهمية التي تتعامل بها مع أعمالك الإبداعية؟‮!‬

أتعامل مع مقالاتي كأنها قصص قصيرة،‮ ‬أسعي ألا أكتب المقال السياسي المباشر‮. ‬عندما أكتب المقالة أستدعي أدواتي الكتابية‮. ‬بعض المقالات أعتبرها أعمالاً‮ ‬أدبية متخيّلة،‮ ‬فانتازيا‮. ‬أنا أديب حتي وأنا أكتب المقالات،‮ ‬وفخور برد فعل المقالات في الصحافة العالمية‮. ‬طوال الوقت تأتيني إيميلات ومكالمات هاتفية من السودان ولبنان والأردن ومن جزائريين في فرنسا،‮ ‬وغيرهم من العرب في مختلف البلدان الأوروبية‮. ‬هذا هو التقدير الحقيقي للكتابة،‮ ‬التقدير الذي يجعلك متأكداً‮ ‬من أنّ‮ ‬مجهودك لا يضيع سدي‮.‬

الكتاب الجديد‮ »‬مصر علي دكة الاحتياطي‮« ‬سيصدر بالعربية والإنجليزية‮. ‬عندي وكيل أدبي في نيويورك،‮ ‬وهو نفس وكيل كتّاب كبار أمثال أورهان باموق،‮ ‬وسلمان رشدي،‮ ‬وآتشيبي‮. ‬هذا الوكيل يعمل علي ترجمة مقالاتي في اليوم التالي لنشرها مباشرة،‮ ‬ثم يقوم بإرسالها إلي الصحافة العالمية،‮ ‬وقد نشرت‮ ‬70‮ ‬بالمائة من هذه المقالات في كبري الصحف،‮ ‬لوموند،‮ ‬دير شبيجل،‮ ‬الجارديان،‮ ‬إنترناسيونالي،‮ ‬وغيرها‮.‬

هل تري أن نجاح رواية‮ "‬عمارة يعقوبيان‮" ‬أسهم في ازدياد الإقبال علي قراءة الأدب؟‮!‬

قد تكون الرواية أسهمت في ازدياد المقروئية،‮ ‬ولكن الأهم بالنسبة لي أن نري المجتمع ككائن حي،‮ ‬لا مجموعة من الظواهر المنفصلة‮. ‬لو أننا فعلنا ذلك سنجد أن المجتمع تغيّر‮. ‬هناك حركة تغيُّر كبري تحدث في الشارع السياسي‮. ‬احتجاجات مباشرة،‮ ‬ومطالب بالتغيير،‮ ‬لم يكن أحد يتخيل أنّ‮ ‬هذا يمكنُ‮ ‬أن يحدُث منذ عشر سنوات‮.. ‬والفضل لجيل جديد من الشبان لهم وسائل إعلان مستقلة علي الإنترنت،‮ ‬وأيضاً‮ ‬لإحساس الإنسان المصري بأنه لا بد من تغيير حقيقي،‮ ‬فالحياة أصبحت شبه مستحيلة‮. ‬كل هذا وعوامل أخري هو ما أعلي مستوي القراءة،‮ ‬كما أن عودة الناس إلي الكتاب أمر طبيعي لأنّ‮ ‬مصر أنجبت معظم الأدباء المهمين في العصر الحديث‮. ‬لا يمكن لمصر أن تنجب أدباء كباراً‮ ‬بدون أن يكون فيها قرّاء كبار‮. ‬في الثمانينيات والتسعينيات كانت الأزمة في كل المجالات بما فيها سوق الكتاب والمسرح والسينما،‮ ‬والسبب حالة من الإحباط التي جعلت المصريين مذعنين جداً‮. ‬ولحسن الحظ أنّ‮ ‬مصر عبرت هذه الفترة المظلمة وعادت إلي حالتها الصحية الطبيعية‮.‬

وهل تري أنك حققت نقلة نوعية للأدب العربي في الخارج من خلال تصدر أعمالك قوائم الأكثر مبيعاً‮ ‬وحصدها لعدد كبير من الجوائز؟‮!‬

أنا فخور جداً‮ ‬بما أنجزته في الخارج،‮ ‬ليس لي ولا للأدب المصري،‮ ‬ولكن للأدب العربي عموماً‮. ‬النجاح أكبر من‮ "‬عمارة يعقوبيان‮" ‬لقد نجحت في شيء آخر أعتقد أنه هو الإضافة الحقيقية‮. ‬أنه لا يتم تقديمي في الغرب علي خلفية فولكلورية،‮ ‬نعم الأدب المصري‮ ‬_للأسف الشديد‮- ‬كان يتم تقديمه علي هذه الخلفية،‮ ‬فالجمهور الغربي كان يقرأ كتّابه المفضلين من أنحاء العالم ثم يذهب إلي دار نشر صغيرة ليبحث عن هذه الصيغة الفولكلورية،‮ ‬تماماً‮ ‬كما تقدّمها له فرقة للتنورة‮. ‬لقد قلل هذا من فرص الأدب العربي في الخارج وتقديمه للقارئ بشكل طبيعي‮. ‬

الآن أنا فخور بأنه يتم تقديمي كروائي علي قدم المساواة من ناحية التقدير والنجاح بروائيين كبار،‮ ‬وقد حدث أنني مصري،‮ ‬جنسيتي العربية لا تفرق في هذه الحالة،‮ ‬بمعني أنهم لا يبحثون عن الفولكلور من خلف أعمالي،‮ ‬هذا هو الإنجاز الحقيقي،‮ ‬وماعدا ذلك ليس إنجازاً،‮ ‬أصبحت مثلي مثل أي روائي فرنسي أو إيطالي،‮ ‬وفكرة أنني مصري‮ ‬لا يغيّر شيئاً‮ ‬في الأمر‮. ‬هذه هي البداية الحقيقية،‮ ‬أن يتم تقديمك بشكل جيد لدي القراء والنقاد ودور النشر الكبري‮.‬

هل يمكن القول‮.. ‬أنك فتحت الباب أمام آخرين لتتم ترجمتهم في الخارج؟‮!‬

بعد نجاح أعمالي طلبت إليّ‮ ‬دور نشر كبري أن أرشّح لها أعمالاً‮ ‬أراها جيدة،‮ ‬ولكن لا بد من الإشارة هنا إلي أنّ‮ ‬نشر الأدب العربي ظل لزمن طويل يتم في النطاق الأكاديمي،‮ ‬في الأغلب داخل الأقسام المتخصصة في الأدب العربي‮ ‬،‮ ‬وهكذا كان خارج دائرة النشر الحقيقية للأدب‮. ‬من هنا لا بد أن نغيّر مفهومنا عن الترجمة،‮ ‬فمن الممكن أن يتم ترجمتك بواسطة مستشرق،‮ ‬وينتهي الأمر بطباعة ألف نسخة من عملك،‮ ‬ويتم إيداعها في قسم أو اثنين من أقسام الأدب العربي،‮ ‬ولكنك ستظل‮ ‬_كما قلت‮- ‬خارج دائرة النشر الحقيقية،‮ ‬ولا يعرف القارئ عنك شيئاً‮!‬

في إيطاليا هناك دارا نشر أو ثلاث لو أنه تم النشر لك خارجها فأنت‮ ‬غير موجود أصلاً،‮ ‬وأنا الآن تتم ترجمتي عبر هذه الدور الكبري مثل أي كاتب إيطالي،‮ ‬وكل هذا فتح الباب لمن هم بعدي‮.‬

ما المشاكل المترتبة إلي النظر للأدب العربي من منظور الفولكلور؟‮!‬

حينما يتم تقديم الأدب العربي علي خلفية فولكلورية نصبح أمام أمرين،‮ ‬الأول أن الموضوع أهم من الفن،‮ ‬وبالتالي لو أنني كتبت رواية بطلتها سيدة فرنسية جاءت إلي مصر واستقرت بها وتزوجت بشخص مصري أجبرها علي الاختتان،‮ ‬ثم ماتت بسبب النزيف فإن هذه الرواية ستتم ترجمتها فوراً،‮ ‬لماذا؟‮! ‬لأنها ستمثّل صكّاً‮ ‬بأننا متخلفون،‮ ‬فقد قطعنا بظر السيدة الراقية وقتلناها،‮ ‬في هذه الحالة الأدب ليس مهماً‮ ‬علي الإطلاق‮..‬

الأمر الآخر أنك ستظلّ‮ ‬كروائي في دائرة المهتمين بالثقافة العربية كفولكلور لا كفن،‮ ‬وارتباطاً‮ ‬بهذا لم يعد خافياً‮ ‬أنّ‮ ‬هناك متعهداً‮ ‬لكل بلد،‮ ‬أقصد مستشرقاً‮ ‬يذهب إلي دولة ما ولتكن مصر،‮ ‬ويبحث عن الكتب التي تحقق رغبته،‮ ‬كتب الفولكلور،‮ ‬وفي الأغلب تظل ترجماته ضيّقة لا تخرج لدور النشر الكبري،‮ ‬وللصدق فإن الدور الكبري لا تهتم بمعايير المستشرقين،‮ ‬ولا تعنيها قصص الختان،‮ ‬وإنما ترسّخ لمعايير أدبية حقيقية إذا لم تتوفر فإنها تُحجم عن نشر العمل‮.‬

يضحك مضيفاً‮: ‬كنت في إيطاليا أتناول العشاء مع مسئول أدبي بصحيفة إيطالية كبري كتب مقالة ممتازة عن‮ "‬عمارة يعقوبيان‮"‬،‮ ‬وكانت بصحبتنا مستشرقة،‮ ‬وفجأة سألته‮:‬

‮-‬لماذا لا تشجّع الأدب العربي؟‮!‬

ورد عليها قائلاً‮ ‬باندهاش‮: ‬ولماذا أشجّع الأدب العربي؟‮!‬

وسألته مجدداً‮: ‬وهل أنت ضد الأدب العربي؟‮!‬

وقال‮: ‬لست ضد الأدب العربي ولا معه،‮ ‬أنا مع الفن،‮ ‬لو أنّ‮ ‬لديك رواية جميلة أرسليها إليّ‮ ‬وأنا سأكتب عنها فوراً‮ ‬سواء كان من كتبها عربي أو هندي،‮ ‬هذا لا يفرق معي‮!!‬

إلي أي جيل تنتمي؟ وهل تشغلك هذه الفكرة أساساً؟‮!‬

نحن نسيء استعمال مصطلح الجيل،‮ ‬فهناك فارق بين الجيلين‮: ‬الزمني والأدبي،‮ ‬الجيل الزمني يتشكل كل عشر سنوات،‮ ‬أما الجيل الأدبي فمشروع ليست له علاقة بالسن،‮ ‬وأضرب مثالاً‮ ‬في هذا الإطار بجيل‮ ‬27‮ ‬في الأدب الإسباني،‮ ‬شكّل هذا الجيل مجموعة من الأدباء والشعراء والفنانين التشكيليين متفاوتي الأعمار،‮ ‬كانوا يهدفون إلي تغيير وجه الأدب الإسباني‮.‬

الجيل الأدبي إذن هو مشروع أدبي له ملامح واحدة،‮ ‬يشترك فيه الصغير والكبير،‮ ‬ولو أنك طبّقت هذا المعيار علي الرواية العربية فإنك لن تجد جيلاً‮ ‬ينطبق عليه سوي جيل الستينيات،‮ ‬كان لهذا الجيل مشروع وهدف واحد،‮ ‬وقد حدث أن أعمار أبناء هذا الجيل متقاربة،‮ ‬وقد خرجوا في نور شمسين كبيرتين،‮ ‬أقصد نجيب محفوظ ويوسف إدريس،‮ ‬وكانت هناك أحداث وتغيّرات سياسية انتهت بنكسة‮ ‬67،‮ ‬هذه الأحداث كوّنت ملامحهم،‮ ‬وهم بالمناسبة ليسوا علي نفس القدر من الموهبة‮..‬

نجيب محفوظ لا ينتمي إلي أي جيل وأنا مثله،‮ ‬لا أعتقد أنني أنتمي إلي جيل أدبي بالمعني الذي شرحته،‮ ‬ولو كان ثمة مشروع يربطني بآخرين كنت سأنتمي إليه‮!‬

البعض يري أنك تعتمد علي نجاح‮ "‬عمارة يعقوبيان‮" ‬في بيع أعمالك اللاحقة‮. ‬ما رأيك؟‮!‬

كما أنّ‮ ‬لديّ‮ ‬تقديراً‮ ‬ومحبة من ملايين الناس،‮ ‬محبة تلخصها تسع وعشرون لغة تمت ترجمة أعمالي إليها،‮ ‬وثماني وسبعون طبعة،‮ ‬أقول‮: ‬كما أنّ‮ ‬لديّ‮ ‬هذه المحبة علي مستوي الجمهور والنقاد فإنني أتفهم جيداً‮ ‬المشاعر السلبية‮. ‬كانت هذه المشاعر تؤذيني في البداية حتي اعتدتها وتأقلمت معها وأصبحت لا أعيرها انتباهاً‮..‬

والغريب أنّ‮ ‬هذه المشاعر السلبية تخرج في شكل اتهامات متناقضة،‮ ‬وسأشرح لك ما أقصده‮. ‬المفروض أنّ‮ ‬النجاح الكبير لا يساعدك بل إنه يجعلك في مواجهة أزمة،‮ ‬لسبب بسيط،‮ ‬أنّ‮ ‬العمل حينما ينجح فإنه يُعلي من مستوي تطلّعات النقاد والقرّاء،‮ ‬وبالتالي تتم محاكمتك من نقطة عالية جداً‮ ‬في العمل التالي‮. ‬وفي الأغلب أنت تكون في مواجهة سؤال‮: ‬كيف تتجاوز النجاح الكبير نفسياً‮ ‬وعملياً؟‮! ‬وبالتالي فإن من لم يستطيعوا تجاوز النجاح هبطوا هبوطاً‮ ‬سريعاً‮ ‬جداً،‮ ‬وأضرب مثالاً‮ ‬بإيزابيل أليندي التي تهبط منذ ذهابها إلي الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وأنا أعلم من مسئولي دور النشر التي نتعامل معها أنا وإيزابيل أنّ‮ ‬هناك أزمة حقيقية تواجهها،‮ ‬فقد هبط مستواها ولم يعد القرّاء يقبلون علي أعمالها كما كان في السابق‮!‬

وما رأيك في تفسير ريشار جاكمون لنجاح هذه الرواية بفرنسا بأن القارئ وجد فيها حنيناً‮ ‬لعصر الاستعمار؟‮!‬

بيني وبين ريشار جاكمون مشاكل كبري،‮ ‬وكنت أتمني أن يتمتع بالإنصاف ويعلن هذه المشاكل‮.‬

لقد حدثت مواجهة في السوربون الصيف الماضي بيننا واتهمته خلالها بأنه ينفّذ أجندة سياسية محددة ولا يعتني بالفن إطلاقاً،‮ ‬وذكّرته بواقعة حدثت معي،‮ ‬وهذه الواقعة أسردها للمرة الأولي في الصحافة‮. ‬ريشار جاكمون كان مسئول الترجمة في المركز الفرنسي‮ ‬5‮ ‬شارع الفواكه بالمهندسين خلال التسعينيات،‮ ‬وأذكر العنوان هنا رغبة في سرد كل التفاصيل لأنه أنكر الواقعة من أساسها‮. ‬أرسلت لجاكمون أول عمل لي بعنوان‮ "‬أوراق عصام عبد العاطي‮"‬،‮ ‬ووجدته يتحدّث عنها في صفحة الأدب بجريدة الأخبار قائلاً‮ ‬إنه صادف كاتباً‮ ‬مصرياً‮ ‬موهوباً‮ ‬هو علاء الأسواني،‮ ‬ولم يستطع النوم قبل أن يكمل عمله الفذ‮ "‬أوراق عصام عبد العاطي‮" (‬في هذا العمل أستخدم صيغة المتكلم،‮ ‬والشخص الرئيسي في العمل‮ "‬عصام عبد العاطي‮" ‬يهاجم الثقافة العربية ومصر والمصريين،‮ ‬ونكتشف عبر توالي الأحداث أنه مضطرب نفسياً‮ ‬وينتهي به الأمر في مصحة للعلاج النفسي‮).‬

المهم أنني ذهبت إلي جاكمون بالمركز الفرنسي لأشكره علي كلامه مصطحباً‮ ‬معي عدداً‮ ‬آخر من النسخ،‮ ‬وإذا به يقول لي‮: "‬نحن نترجم أعمالاً‮ ‬قليلة جداً‮"‬،‮ ‬وأثني عليّ‮ ‬بلقب‮ "‬كاتب كبير‮" ‬وقال إنه سيترجم العمل،‮ ‬ولكن بشرط واحد‮. ‬سألته‮: ‬ما الشرط؟‮! ‬فقال‮: ‬أن يتم تغيير نهاية الرواية بحيث لا يصبح البطل مجنوناً‮.‬

وعدت لسؤاله باندهاش كبير‮: "‬بتتكلم جد ولا بتهزر؟‮!" ‬وبدأ يتعصّب وقال بحدّة‮: "‬هو أنت بتكتب أعمالاً‮ ‬مقدسة؟‮!".‬

قلت له‮: ‬لو أن الرجل ما أصبح مجنوناً‮ ‬فإن معني كل هجومه علي الثقافة العربية والمصريين ووصفهم بالعبيد سيكون موضوعياً‮ ‬لأنه خارج من شخص سليم وموضوعي‮!‬

وقال لي‮: "‬وفيها إيه يعني؟‮!".‬

وقلت له‮: ‬لو أنك تريد رواية بهذا المعني فلتكتبها أنت‮!‬

وسألني‮: ‬أهذا رأيك النهائي؟‮!‬

وأجبته‮: ‬نعم،‮ ‬وأخذت النسخ التي أحضرتها معي وغادرت‮!‬

‮ ‬المهم كان هناك أسبوع للاحتفال بشخصي المتواضع في السوربون،‮ ‬كنت فخوراً‮ ‬بهذا الأمر،‮ ‬أن هؤلاء الأساتذة المهمين يجتمعون ليدرسوا ما الذي صنعته في الأدب العربي‮. ‬وجدت ريشار هناك،‮ ‬وبدأ يتحدّث بطريقة‮ ‬غير موضوعية،‮ ‬وهاجمني بعنف،‮ ‬وتحدّثتُ،‮ ‬وأكدت له أمامهم أنني سأذكر واقعة أتحدّاك أن تنكرها أو تنفيها،‮ ‬وبدأت أسرد الواقعة السابقة وسط صمت الأساتذة الذين بدوا وكأنّ‮ ‬علي رءوسهم الطير،‮ ‬ووصل الموضوع بسرعة إليهم لأنني أتحدّث الفرنسية بطلاقة‮.. ‬وسألته في النهاية‮: "‬حصل ولا ماحصلش؟‮!" ‬وردّ‮: ‬أنا لا أتذكر‮!!‬

قلت لهم‮: ‬هذا نموذج واضح لما يتم حيال الأدب العربي،‮ ‬هذا كان مسئول النشر بالمركز الفرنسي وهذه كانت طريقته في النشر،‮ ‬كان يريد موضوعات معيّنة،‮ ‬وإزاء هذا ألغي إحساسه وذائقته الفنية،‮ ‬وأقول علي مسئوليتي،‮ ‬كان ريشار جاكمون يلعب دوراً‮ ‬سياسياً‮ ‬في مصر والدور الذي لعبه لا علاقة له بالأدب من قريب أو من بعيد‮.‬

هل تتذكر رواية‮ "‬الصقّار"؟‮ (‬الرواية للكاتب سمير‮ ‬غريب علي‮) ‬لقد نشر ريشار تغطية لهذه الرواية في لوموند لمجرد أنّ‮ ‬بطل الرواية تطاول علي القران الكريم،‮ ‬وما فعله يدل علي طريقة تفكيره ومنهجه،‮ ‬هذا الرجل لا علاقة له بالأدب إطلاقاً،‮ ‬وقد ساندني أساتذة السوربون ضد ريشار،‮ ‬ولم يستطع النفي،‮ ‬وجاءني في‮ "‬ريسيبشن‮" ‬أقيم بعد الجلسة التي أتحدّث عنها وقال لي‮: ‬أنا لا أتذكّر القصة التي حكيتها تماماً،‮ ‬وقلت له‮: ‬نحن هكذا سندخل في نطاق العجائب،‮ ‬لو أنك لا تتذكر فأنت لست ريشار،‮ ‬وأنا لست علاء‮. ‬وأكرر،‮ ‬أنا لا أعتبر جاكمون ناقداً‮ ‬أدبياً،‮ ‬ولكنه شخص جاء إلي مصر بتكليف سياسي،‮ ‬وبناء علي هذه التكليفات السياسية كان يقرر مهامه الأدبية‮!‬

لقد سألته مرة‮: ‬لماذا لا تترجم أعمال بهاء طاهر؟ فقال لي:أنا لا أحب أعماله‮!‬

ويضيف‮: ‬من أسباب الهجوم علي‮ "‬عمارة يعقوبيان‮" ‬في ألمانيا فكرة التعاطف مع الإرهابي،‮ ‬وهم يعتبرون أي حماس للأدب العربي عمل موجّه ضد إسرائيل،‮ ‬لقد قالوا إن الرواية ستجعلنا نتعاطف‮ ‬مع من سيقتلوننا‮. ‬

الأدب وسيلة تعاطف لا وسيلة حكم،‮ ‬تعاطف حتي مع الذين يرتكبون الأخطاء‮. ‬كان دستيوفسكي سجيناً‮ ‬في سيبريا عام‮ ‬1849‮ ‬مع القتلة واستطاع بعبقريته الفذة أن يخرج مناطق شديدة الإنسانية من هذه الشخصيات الإجرامية في عمله البديع‮ "‬ذكريات من بيت الموتي‮". ‬الأدب يجعلك تتعاطف قبل أن تحكم،‮ ‬وكلام ريشار جاكمون ليست له علاقة بهذا‮. ‬كان مسئولاً‮ ‬سياسياً‮ ‬وتركت له الحكومة الفرنسية مهمة لتنفيذها أنا وهو والمقربون منه يعرفونها جيداً‮.‬

هل تحكم دائرة الاستشراق علي الأعمال الأدبية من منظور سياسي؟‮!‬

كنت في إحدي دول الشمال،‮ ‬وشاركت في أمسيات ثقافية ناجحة جداً‮ ‬حول‮ "‬شيكاغو‮". ‬جمعني لقاء بالناشرة وبمستشرقة‮. ‬الأخيرة قالت لي‮: ‬هل قرأت رواية كذا لفلان؟‮! ‬قلت‮: ‬نعم‮. ‬سألتني‮: ‬وما رأيك؟‮! ‬أجبت‮: ‬رواية جيدة‮.. ‬هل قرأتيها؟‮! ‬قالت‮: ‬لا،‮ ‬ولكن سأترجمها لأن هناك أشخاصاً‮ ‬كثيرين أخبروني بأنها رواية جيدة،‮ ‬كما أنها تصف معاناة الأقباط داخل مصر‮! ‬قلت‮: ‬أنا قلت إنها رواية جيدة،‮ ‬ولكنها لا تتحدّث عن معاناة الأقباط،‮ ‬بالعكس‮.. ‬الرواية تكشف عن تعايشهم مع المسلمين وتعرضهم لنفس المشكلات التي يعانونها‮.‬

سألتني‮: ‬أليس كاتبها قبطياً؟‮! ‬ثم طلبت مني رقم هاتفه‮.‬

رددت وأنا أفتح‮ "‬الموبايل‮" ‬لأمنحها الرقم‮: ‬نعم،‮ ‬أعرفه،‮ ‬وأعرف أنه‮ ‬غيّر دينه،‮ ‬وعموماً‮ ‬سواء كان مسيحياً‮ ‬أو مسلماً‮ ‬هو شخص‮ ‬غير متديّن‮.‬

وحينما هممت بإعطائها الرقم وجدتها لا تريده وتخبرني أنها‮ ‬غيّرت رأيها بشأن ترجمة الرواية‮. ‬لقد قررت هذه المستشرقة ترجمة عمل لم تقرأه لمجرد أنها سمعت أنه يتحدّث عن معاناة الأقباط،‮ ‬ثم قررت العدول عن قرارها لأن الرواية لا تتحدث عن هذا ولأن كاتبها أصبح مسلماً‮. ‬هذه ليست شائعة وإنما واقعة حدثت معي بالفعل،‮ ‬وهي تكشف الدائرة الاستشراقية الجهنمية التي أفلت منها عدد قليل جداً،‮ ‬منهم نجيب محفوظ،‮ ‬جمال الغيطاني،‮ ‬ومحمود درويش،‮ ‬هذه بعض الأسماء،‮ ‬وهناك آخرون،‮ ‬وأنا عموماً‮ ‬فخور بأن ألحق بهذا الرجل،‮ ‬نجيب محفوظ‮.‬

وما تأثير هذه الدائرة علي الأدب العربي؟‮! ‬

الأخطر أنك تصنع كتابة زائفة،‮ ‬هناك أشخاص يكتبون طبقاً‮ ‬للمعايير،‮ ‬والنجاح الحقيقي أن تفلت من هذه الدائرة الجهنمية الخانقة التي لا بد من مواجهتها،‮ ‬ومن يستحقون الإفلات كثيرون‮.‬

هناك مشكلة تأتي من بعض،‮ ‬أقول بعض العرب المسئولين في الغرب‮. ‬مصر كبيرة جداً،‮ ‬والعلاقة بها إما حب شديد،‮ ‬أو فتور وضيق‮. ‬هؤلاء الذين أقصدهم يضايقهم نجاح المصريين علي مستوي الترجمات والجوائز والمشاركة بالمؤتمرات،‮ ‬ويُخرجُ‮ ‬من داخلهم المشاعر السلبية،‮ ‬وبعضهم يسعي لتهميش حجم الأدب المصري وهو كبير جداً‮ ‬لأن مصر حجمها كبير‮. ‬الأدب المصري يشكل ركيزة للأدب العربي والمفروض أنّ‮ ‬أي نجاح للمصريين يسعد العرب جميعاً‮. ‬

ما أمراض الثقافة المصرية من وجهة نظرك؟‮!‬

يأتي علي رأس هذه الأمراض علاقة المثقفين بالنظام‮. ‬نتيجة لسياسة وزارة الثقافة في إدخال المثقفين إلي الحظيرة نشأ نوع نادر من المثقفين،‮ ‬المثقف الذي يناضل في قضايا الأدب ولا يناضل في قضايا الواقع،‮ ‬مثقف يعمل مسيرة احتجاجاً‮ ‬علي دعوي مصادرة النسخة الأصلية لألف ليلة وليلة،‮ ‬ولكن عندما يتم يتم سحل المواطنين وتزوير الانتخابات لا تسمع له حسّاً‮ ‬من قريب أو بعيد‮. ‬المثقف الذي يسكت علي حق الناس خائن،‮ ‬نحن جميعاً‮ ‬تعلمنا في الجامعة،‮ ‬كنت أدفع في العام التعليمي بكلية الطب‮ ‬16‮ ‬جنيهاً‮ ‬ونصف الجنيه‮. ‬في الجامعات الخاصة أصبحت السنة التعليمية بخمسين ألف جنيه‮. ‬الفارق دفعه المواطنون،‮ ‬وأنا حينما تكون لي كلمة مسموعة لماذا لا أتضامن مع من دفعوا لتعليمي ضد من يحاولون سلبهم حقوقهم؟‮! ‬

للأسف نحن ننفرد بفكرة المثقف الذي يسعي في ركاب الدولة نهاراً،‮ ‬وليلاً‮ ‬يرفع صوته بالدفاع عن حرية التعبير،‮ ‬وقد كان موقف ماركيز من الانتفاضة الفلسطينية أقوي وأكبر من مواقف أدباء عرب كبار،‮ ‬لأن ماركيز يعي جيداً‮ ‬أنّ‮ ‬المثقف موقف‮.‬

وما تفسيرك لظاهرة التديّن الشكلاني التي أغرقت المجتمع المصري؟‮!‬

كان لدينا فهم خاص للإسلام أرساه المفكر الإصلاحي المستنير محمد عبده‮. ‬لقد خلص العقل المصري من الخزعبلات وجعل من الدين حافزاً‮ ‬لا عبئاً،‮ ‬وبالتالي انطلقت مصر في القرن العشرين انطلاقة مدهشة،‮ ‬كانت لها الريادة في جميع المجالات،‮ ‬من أول طيّار مروراً‮ ‬بالمسرح والسينما والصحافة،‮ ‬حتي النابغون من العرب كانوا لا بد وأن يعبروا من خلالها‮. ‬يعقوب صنوع،‮ ‬وجورجي زيدان وغيرهما‮.‬

الدين كان يعني الحق،‮ ‬العدل،‮ ‬المساواة،‮ ‬الحرية،‮ ‬الأمانة،‮ ‬ولكن منذ بداية الثمانينيات جاء فهم آخر يناهض فهمنا للدين،‮ ‬هو الفهم الوهابي الذي اختصر الدين في مجموعة من الإجراءات،‮ ‬أصبح عليك لكي تكون متديناً‮ ‬أن تقوم بمجموعة إجراءات،‮ ‬تشبه بالضبط إجراءات الإعلان عن تأسيس شركة تجارية،‮ ‬وأصبح ثمانون بالمائة من التوجّه الجديد خاص بجسد المرأة‮. ‬الآن أصبحت بالمجتمع المصري معركتان،‮ ‬واحدة من أجل التغيير الديمقراطي،‮ ‬وأخري تدافع فيها مصر عن ثقافتها وفهمها المستنير للإسلام،‮ ‬وهي معركة ضارية،‮ ‬وأزعم أنه لولا أنّ‮ ‬الثقافة المصرية قديمة وراسخة لنجحت أموال النفط التي تروّج للمذهب الوهابي في جعل كل نساء مصر منتقبات‮!‬

أخيراً‮.. ‬هل تكتب عملاً‮ ‬روائياً‮ ‬جديداً؟‮!‬

نعم،‮ ‬ولكنني أستغرق سنوات في كتابة الرواية‮. ‬لقد رسخ مفهوم‮ ‬غريب عند بعض الكتّاب خاص بفكرة الكم إزاء الكيف،‮ ‬أنّ‮ ‬من كتب ثلاثين رواية أفضل من صاحب أربع روايات،‮ ‬وهو مفهوم لا يوجد بالعالم كله‮. ‬أي كاتب كبير نادراً‮ ‬ما يتخطّي حاجز العشر روايات،‮ ‬من ماركيز إلي دستويفسكي إلي آخرين‮. ‬كان محفوظ نموذجاً‮ ‬نادراً‮.‬

الرواية شيء ثمين وعزيز جداً،‮ ‬وأنت قد تكتب رواية فتغيّر وجه الأدب‮. ‬فلوبير فعل هذا ب"مدام بوفاري‮". ‬كتبها في خمسة أعوام من العمل المتواصل‮. ‬ومارسيل بروست ب"البحث عن الزمن الضائع‮". ‬استغرقت منه عشرين عاماً‮.‬

أتمني الاهتمام بالكيف لا الكم،‮ ‬الأدب العربي يستحق أن يكون أدباً‮ ‬عالمياً،‮ ‬عندنا مواهب كبري ولكن الأدب العالمي له معايير،‮ ‬القضية ليست مؤامرة بالكامل،‮ ‬وبالتالي من يكتب رواية‮ ‬_وأنا لا أقدّم نفسي نموذجاً‮- ‬عليه أن يحتشد لهذه الرواية،‮ ‬ويقضي وقتاً‮ ‬طويلاً‮ ‬في البحث،‮ ‬حتي يحقق معياراً‮ ‬من معايير الأدب العالمي‮. ‬هذا ما أسعي لنقله إلي الأدباء الشبان‮. ‬أؤكد لهم أن فكرة إصدار أعمال صغيرة متلاحقة باعتبارها روايات فكرة‮ ‬غير مفيدة‮ ‬لا للأدب ولا للأديب‮.‬